محمود سامى البارودى

نشأ طموحا تبوأ مناصب مهمة بعد أن التحق بالسلك العسكري وقد ثقف نفسه بالاطلاع على التراث العربي ولا سيما الأدبى  فقرأ دواوين الشعراء وحفظ شعرهم وهو في مقتبل عمره أعجب بالشعراء المجددين مثل أبى تمام و البحترى والشريف الرضى والمتنبى وغيرهم وهو رائد الشعر العربي الحديث الذي جدد في القصيدة العربية شكلا ومضمونا .
نشأ البارودي في أسرة على شيء من الثراء والسلطان فأبوه كان ضابطا في الجيش المصرى برتبة لواء وعين مديرا لمدينتي بربر ودنقلة فى السودان ومات هناك وكان محمود سامي حينئذ في السابعة من عمره .
مدرسة البعث والإحياء فى الشعر العربى الحديث وهو أحد زعماء الثورة العرابية  ولقد تولى وزارة الحربية ثم رئاسة الوزراء باختيار الثوار له ولقب برب السيف والقلم .

تلقى البارودي دروسه الأولى فتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم تعلم مبادئ النحو والصرف ودرس شيئا من الفقه والتاريخ والحساب حتى أتم دراسته الابتدائية عام 1851 حيث لم يكن هناك في هذه المرحلة سوى مدرسة واحدة لتدريس المرحلة الابتدائية وهي مدرسة المبتديان وكانت خاصة بالأسر المرموقة وأولاد الأكابر ومع أنه كان من أسرة مرموقة فإن والدته قد جلبت له المعلمين لتعليمه في البيت التحق وهو في الثانية عشرة من عمره بالمدرسة الحربية سنة 1852م  فالتحق بالمرحلة التجهيزية من المدرسة الحربية المفروزة وانتظم فيها يدرس فنون الحرب وعلوم الدين واللعة و الحساب والجبر بدأ يظهر شغفا بالشعر العربي وشعرائه الفحول حتى تخرج من المدرسة المفروزة عام 1855م برتبة “باشجاويش” ولم يستطع استكمال دراسته العليا والتحق بالجيش السلطانى .

عمل بعد ذلك وزارة الخارجية وسافر إلى الأستانة عام 1857 م حيث تمكن في أثناء إقامته هناك من إتقان التركية والفارسية ومطالعة آدابهما وحفظ كثيرا من أشعارهما وأعانته إجادته اللغة التركية والفارسية  على الالتحاق بقلم كتابة السر بنظارة الخارجية التركية وظل هناك نحو سبع سنوات  من عام 1857 حتى عام 1863 ولما سافر الخديوى إسماعيل إلى العاصمة العثمانية بعد توليه العرش ليقدم آيات الشكر للخلافة ألحق البارودي بحاشيته فعاد إلى مصر في فبراير 1863 م عينه الخديوى إسماعيل معينا لأحمد خيري باشا على إدارة المكاتبات بين مصر  والأستانة .

ولكنه ضاق برتابة العمل الديواني وحن إلى حياة الجندية فنجح في  يوليو عام 1863 بالانتقال من معية الخديوي إلى الجيش برتبة بكباشى برتبة ألحق بآلاى الحرس الخديوي وعين  قائد الكتيبتين من فرسانه وأثبت كفاءة عالية في عمله في أثناء ذلك اشترك في الحملة العسكرية التي خرجت سنة 1865م لمساندة الجيش العثماني في إخماد الفتنة التي نشبت في جزيرة كريت واستمر في تلك المهمة لمدة عامين حيث أبلى البارودي بلاء حسنا وقد جرى الشعر على لسانه يتغنى ببلده الذي فارقه ويصف جانبا من الحرب التي خاض غمارها في رائعة من روائعه الخالدة التي مطلعها

بعد عودة البارودي من حرب كريت تم نقله إلى المعية الخديوية وعين بمنصب المرافق الشخصي ياور وهي أيضا رتبة عسكرية عثمانية وتعنى رئيس حرس الأمير وله مهمة محددة ألا وهى من يحمل السيف أمام ضيوف الدولة ويسير أمامهم مستعرضا حرس الشرف وقد استخدمت بمصر أيام العثمانيين .
وقد ظل في هذا المنصب ثمانية أعوام ثم تم تعيينه كبيرا لياوران ولي العهد  “توفيق بن إسماعيل” في  يونيو 1873م ومكث في منصبه سنتين ونصف السنه ثم عاد بعدها إلى معية الخديوي إسماعيل كاتبا لسره (سكرتيرا) ثم ترك منصبه في القصر وعاد إلى الجيش .

 

ولما استنجدت الدولة العثمانية بمصر في حربها ضد روسيا ورومانيا وبلغاريا والصرب كان البارودي ضمن قادة الحملة الضخمة التي بعثتها مصر ونزلت الحملة في “وارنة” أحد ثغور البحر الأسود وحاربت في أوكرانيا ببسالة وشجاعة غير أن الهزيمة لحقت بالعثمانيين وألجأتهم إلى عقد معاهدة سان ستيفانو فى مارس 1878م وعادت الحملة إلى مصر وكان الإنعام على البارودي برتبة “اللواء” والنيشان المجيدى من الدرجة الثالثة ونيشان الشرف لما قدمه من ضروب الشجاعة وألوان البطولة .

تم تعيينه مديرا لمحافظة الشرقية فى أبريل 1878م  وسرعان ما نقل محافظا للقاهرة وكانت مصر في هذه الفترة تمر بمرحلة حرجة من تاريخها بعد أن غرقت البلاد في الديون وتدخلت إنجلترا وفرنسا في توجيه السياسة المصرية بعد أن صار لهما وزيران في الحكومة المصرية ونتيجة لذلك نشطت الحركة الوطنية وتحركت الصحافة وظهر تيار الوعي الذي يقوده “جمال الدين الأفغانى” لإنقاذ العالم الإسلامى من الاستعمار وفي هذه الأجواء المشتعلة تنطلق قيثارة البارودي بقصيدة ثائرة تصرخ في أمته توقظ النائم وتنبه الغافل وهي قصيدة طويلة  منها :

جلبت أشطر هذا الدهر تجربة
                                    وذقت ما فيه من صاب ومن عسل
فما وجدت على الأيام باقية
أشهى إلى النفس من حرية
العمل لكننا غرض للشر في زمن

أهل العقول به في طاعة الخمل

قامت به من رجال السوء طائفة

                                     أدهى على النفس من بؤس على ثكل

ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت

قواعد الملك حتى ظل فى خلل

بينما كان محمد شريف باشا رئيس مجلس النظار يحاول أن يضع للبلاد دستورا قويما يصلح أحوالها ويرد كرامتها فارضا على الوزارة مسؤوليتها على كل ما تقوم به أمام مجلس شورى النواب إذا بالحكومة الإنجليزية والفرنسية تكيدان للخديوي إسماعيل عند الدولة العثمانية لإقصائه الوزيرين الأجنبيين عن الوزارة وإسناد نظارتها إلى شريف باشا الوطني الغيور وأثمرت سعايتهما فصدر قرار من الدولة العثمانية بخلع إسماعيل وتولية ابنه توفيق .

ولما تولى الخديوى توفيق الحكم سنة 1879م أسند نظارة الوزارة إلى شريف باشا، فأدخل معه في الوزارة البارودي ناظرا للمعارف والأوقاف (5 يوليو 1879 – 18 أغسطس 1879) ونرى البارودي يحيي توفيق بولايته على مصر ويستحثه إلى إصدار الدستور وتأييد الشورى .

غير أن الخديوي توفيق نكص على عقبيه بعد أن تعلقت به الآمال في الإصلاح فقبض على جمال الدين الأفغاني ونفاه من البلاد وشرد أنصاره ومريديه وأجبر شريف باشا على تقديم استقالته وقبض هو على زمام الوزارة وشكلها تحت رئاسته وأبقى البارودي في منصبه وزيرا للمعارف والأوقاف (18 أغسطس 1879 حتى 21 سبتمبر 1879)، بعدها صار وزيرًا للأوقاف في وزارة رياض (21 سبتمبر 1879 – 10 سبتمبر 1881).

ثم تولى البارودي نظارة الحربية في 14 سبتمبر 1881 في الوزارة التي شكلها شريف باشا عقب الثورة العرابية خلفا لعثمان رفقي باشا إلى جانب وزارته للأوقاف بعد مطالبة حركة الجيش الوطنية بقيادة عرابي بعزل رفقى وبدأ البارودي في إصلاح القوانين العسكرية مع زيادة رواتب الضباط والجند لكنه لم يستمر في المنصب طويلا فخرج من الوزارة بعد تقديم استقالته في 22 أغسطس 1881م نظرا لسوء العلاقة بينه وبين رياض باشا رئيس الوزراء الذي دس له عند الخديوي .

تولى رئاسة النظارة إلى جانب نظارة الداخلية فى 4 فبراير 1882 حتى 17 يونيو 1882م وكان أول رئيس وزراء في تاريخ مصر لم يعينه الخديوي بل ينتخبه مجلس النواب ومن أجل ذلك أطلقت على وزارته اسم “وزارة الثورة” أو الوزارة الوطنية .

تم كشف مؤامرة قام بها بعض الضباط الجراكسة لاغتيال البارودي وعرابى وتم تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين فقضت بتجريدهم من رتبهم ونفيهم إلى أقاصي السودان ولما رفع “البارودي” الحكم إلى الخديوي توفيق للتصديق عليه رفض بتحريض من قنصلى إنجلترا وفرنسا فغضب البارودى وعرض الأمر على مجلس النظار فقرر أنه ليس من حق الخديوي أن يرفض قرار المحكمة العسكرية العليا وفقا للدستور ثم عرضت الوزارة الأمر على مجلس النواب فاجتمع أعضاؤه في منزل البارودى وأعلنوا تضامنهم مع الوزارة وضرورة خلع الخديوى ومحاكمته إذا استمر على دسائسه .

انتهزت إنجلترا وفرنسا هذا الخلاف وحشدتا أسطوليهما في الإسكندرية منذرتين بحماية الأجانب وقدم قنصلاهما مذكرة فى 25 مايو 1882 م بضرورة استقالة الوزارة ونفي عرابي وتحديد إقامة بعض زملائه وقد قابلت وزارة البارودي هذه المطالب بالرفض في الوقت الذى قبلها الخديوى توفيق ولم يكن أمام البارودى سوى الاستقالة ثم تطورت الأحداث وانتهت بدخول الإنجليز مصر والقبض على زعماء الثورة العرابية وكبار القادة المشتركين بها وحكم على البارودي وستة من زملائه بالإعدام ثم خفف في 3 ديسمبر 1882م إلى النفي المؤبد إلى جزيرة سرنديب (سريلانكا) .

 ظل في المنفى بمدينة كولومبو عاصمة سيريلانكا حاليا أكثر من سبعة عشر عاما يعاني الوحدة والمرض والغربة عن وطنه فسجل كل ذلك في شعره النابع من ألمه وحنينه وفي المنفى شغل البارودي نفسه بتعلم الإنجليزية حتى أتقنها وانصرف إلى تعليم أهل الجزيرة اللغة العربية ليعرفوا لغة دينهم الحنيف وإلى اعتلاء المنابر في مساجد المدينة ليفقه أهلها شعائر الإسلام .

وطوال هذه الفترة نضم قصائده الخالدة التي يسكب فيها آلامه وحنينه إلى الوطن ويرثي من مات من أهله وأحبابه وأصدقائه ويتذكر أيام شبابه ولهوه وما آل إليه حاله ومضت به أيامه في المنفى ثقيلة واجتمعت عليه علل الأمراض وفقدان الأهل والأحباب فساءت صحته بعد أن بلغ الستين من عمره اشتدت عليه وطأة المرض وضعف بصره فقرر عودته إلى وطنه مصر للعلاج فعاد إلى أرض الوطن مصر يوم 12سبتمبر 1899م وكانت فرحته غامرة بعودته إلى الوطن .

بعد عودته إلى القاهرة ترك العمل السياسى وفتح بيته للأدباء والشعراء يستمع إليهم ويسمعون منه وكان على رأسهم شوقي وحافظ  ومطران  وإسماعيل صبرى  وقد تأثروا به ونسجوا على منواله فخطوا بالشعر خطوات واسعة وأطلق عليهم “مدرسة النهضة” أو “مدرسة الإحياء” .
توفي البارودي في 12 ديسمبر 1904م بعد سلسلة من الكفاح والنضال من أجل استقلال مصر وحريتها وعزتها .